سورة الدخان - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الدخان)


        


{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} [الدخان: 44/ 1- 16].
ابتداء الله السورة بالأحرف الهجائية للتنبيه على خطر ما فيها، ولتحدي العرب الناطقين بلغة الضاد المتكونة من أمثال هذه الحروف بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل بعضه. ثم أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح البيّن الشامل لكل أمور الدين والدنيا والمبين هدى الله وشرعه، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخير، التي هي ليلة القدر، أي إنه تعالى ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر من ليالي رمضان.
وقال العلماء:
إن كتب الله تعالى كلها إنما أنزلت في رمضان، التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك، ونزل القرآن في آخر رمضان في ليلة القدر. ومعنى هذا النزول:
أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وإنه سبحانه كان وما يزال ينذر بهذا القرآن الناس من العذاب الأليم في الآخرة، إذا أشركوا بالله واقترفوا المعاصي.
وفي ليلة القدر يفصّل ويبين الأمر المحكم، ويتخلص عن غيره، فيكتب فيها ما يكون في السنة من الآجال والأرزاق، من خير وشر، وحياة وموت وغير ذلك. قال الحسن البصري ومجاهد وقتادة وغيرهم: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك، ويكتب ذلك، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل.
أنزل الله القرآن أمرا جازما من عنده، متضمنا وحيه وشرعه، وأرسل الرسول محمدا والأنبياء عليهم الصلاة والسّلام إلى الناس لتلاوة آيات الله البينات، رحمة من عند الله وإنقاذا، لبيان ما ينفعهم وما يضرهم، إن الله هو التام السمع لكل صوت أو قول، الشامل العلم بكل صغيرة وكبيرة.
ودليل السمع والعلم وتنزيل القرآن رحمة: أن الله هو رب السماوات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات، وخالقها ومالكها وما فيها، إن أردتم معرفة ذلك عن يقين تام، لا شك فيه.
ومن صفات الله بعد إثبات الرّبوبية: اتّصافه بالوحدانية، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، وهو الذي يحيي الأشياء والمخلوقات، ويميتها، وهو أيضا ربّ الآباء الأوّلين والأجداد الأقدمين، وربّ الموجودين ومن يأتي بعدهم ومدبّر شؤونهم، والرّبوبية تستحقّ العبادة، فالله وحده دون غيره يستحقّ العبادة.
بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتوحيد، يلعبون ويعبثون. وهذا إضراب عما قبله من الكلام، ينفي ما تقدّم، كأنه يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن، ولا ممن تنفعه وصية، بل هم شاكّون لاعبون في أقوالهم وأفعالهم.
فانتظر أيها المشرك يوم تأتي السماء إما بدخان حقيقي أو بما يشبه الدخان، والذي يشبهه: هو ما تعرّض له المشركون من شدة الجوع والقحط، حتى كان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا بينه وبين الناس، والآيات الآتية تقوي هذا التأويل، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ}. فأتوا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، استسق لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.
وطلب الناس قائلين: يا ربّنا اكشف عنا عذابك، إنا مصدّقون بالله ورسوله، ولكنهم لم يكونوا صادقين، ومن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالعهد بالإيمان بعدئذ، وكان قد جاءهم رسول مبيّن أدلة الإيمان، ثم أعرضوا عنه، وقالوا: إنما يعلّمه القرآن بشر غيره، إنه مجنون لا عقل له.
ورحمة من الله قال: إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا، لكنكم راجعون إلى الشّرك، وقد رجعوا فعلا، وإنكم مؤجّلو العذاب الشديد والانتقام الأشد في يوم القيامة، إننا نعاقب هؤلاء الكفار حينئذ.
قال البخاري في تتمة الحديث السابق: فلما أصابتهم الرفاهية، عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى} فانتقم الله منهم يوم بدر.
الاعتبار بقوم فرعون:
كان القرشيون أشداء مستكبرين، وأباة أسيادا بين العرب، فلفت القرآن الكريم أنظارهم إلى أن الله تعالى أهلك من هو أشد منهم قوة وبأسا، ومنهم قوم فرعون، الذين أغرقهم الله مع مليكهم بسبب جحودهم وإجرامهم وتكذيبهم رسولهم، مما يوجب عليهم الاعتبار والاتعاظ، والإدراك بأن أموال الظالمين وثرواتهم آلت إلى من بعدهم، ونجى الله المؤمنين بحق برسالة موسى عليه السّلام، وأنزل التوراة على رسولهم موسى، ليعملوا بأحكامها وشرائعها، ويشكروا نعم الله التي أنعم بها عليهم، وجعلهم مناط ابتلاء أو اختبار، قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:


{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)} [الدخان: 44/ 17- 33].
أي تالله لقد اختبرنا قبل مشركي مكة قوم فرعون (قبط مصر) أرسل الله إليهم، رسولا كريما في نفسه، جامعا لخصال الخير أو المحامد والمنافع، وهو موسى عليه السّلام.
وقال موسى لفرعون وقومه: أرسلوا معي عباد الله، وهم بنو إسرائيل، وأطلقوهم من العذاب، فإني رسول مؤتمن على الرسالة، غير متهم.
ولا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات الله، والانقياد لطاعته ومتابعة رسله، فإني آتيكم ببرهان ساطع دال على صدق رسالتي كالعصا واليد والآيات التسع.
وإني أستعيذ بالله وألتجئ إليه، وأتوكل عليه، مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة، أو الإيذاء بالشتم وغيره.
وإن لم تصدقوني في نبوتي وبما جئتكم به من آيات الله وشرائعه من عند الله، فاتركوني، ولا تتعرضوا لي بأذى، إلى أن يحكم الله بيننا.
فلما يئس موسى من إيمانهم، دعا ربه، ووصف قومه بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك، مشركون بك. فأمره الله تعالى بأن يخرج ليلا بعباد الله بني إسرائيل، لأن فرعون وقومه يتّبعونكم، واترك البحر الذي تمر فيه ساكنا مفتوحا كما هو، لا تضربه بعصاك، حتى يعود كما كان، ليدخله فرعون وجنوده، فإنهم قوم مغرقون في البحر، وهذا بشارة بنجاة موسى وقومه، وإهلاك عدوهم.
ولقد خلّف قوم فرعون وراءهم كل ثرواتهم، فكثيرا ما تركوا في مصر وراءهم، من بساتين خضراء، وحدائق غنّاء، وزروع نضرة، ومجالس حسنة مرفّهة، ونعم كانوا يتمتعون بها أو ناعمين بها. والفاكه: الطيب النفس. والنّعمة- بفتح النون-:
غضارة العيش، ولذاذة الحياة. والنّعمة بكسر النون: أعم من هذا، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعما، ولا يقال فيها نعمة.
كذلك، فكما فعلنا سابقا بالذين كذبوا رسلنا، نفعل بكل من عصانا، وأورثنا تلك البلاد والثروات للإسرائيليين الذي كانوا مستضعفين.
فما تأسّفت عليهم أوساط السماء والأرض، ولم يكونوا ممهلين، بسبب بغيهم وفسادهم، بل عجّلت عقوباتهم، لفرط كفرهم، وشدة عنادهم، ولم يكونوا ممهلين مؤخّرين لتوبة، لأنها غير منتظرة منهم. قوله تعالى: {فَما بَكَتْ} استعارة تتضمن تحقير أمرهم، وأنه لم يتغير شيء بهلاكهم.
وكان في مقابل النقمة: وجود النعمة، فلقد خلّصنا شعب بني إسرائيل، من العذاب المشتمل على إهانة، بإهلاك عدوهم، ومما كانوا فيه من الاستعباد، حينما كانوا صلحاء غير مفسدين في الأرض، ونجاهم الله من فرعون الطاغية المسرف في ارتكاب المعاصي، المجاوز كل الحدود. واختار الله الإسرائيليين الصالحين على عالمي زمانهم، عن علم سابق من الله فيهم، وأنه سينفذ فيهم، وأعطاهم على يد رسولهم موسى المعجزات الظاهرة الدالة على قدرة الله، وآيات التوراة وغير ذلك مما فيه اختبار ظاهر، وامتحان واضح لمن اهتدى به، وللنظر فيما يعملون. فإذا بدّلوا بالإيمان الكفر، وبالصلاح الفساد كما في عصرنا الحاضر، غضب الله عليهم، ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير، ويعود العقاب لهم كلما عادوا إلى البغي والفساد والاعتداء على حقوق الآخرين.
إنكار البعث والرد على المشركين:
المشكلة الحقيقية في كفار قريش بعد وثنيتهم: أنهم كانوا منكري البعث، فلا حياة ولا وجود بعد الموت في زعمهم، ولا دليل على إمكان الإعادة، فتوالت الردود عليهم في القرآن الكريم، وتتابعت التنبيهات والتحذيرات، وألوان الوعيد والتهديد، ومن أخطرها: تحقق العذاب فيهم في نيران جهنم، وتناولهم أشد أنواع الشجر مرارة: وهو شجر الزقوم، فتغلي به بطونهم، تنهال على رؤوسهم حمم النار، فتصهرهم، ويتعرضون لكل ألوان الإهانة والذل فتتركهم أذلة مهانين منبوذين، قال الله تعالى واصفا المشكلة وأسبابها:


{إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} [الدخان: 44/ 34- 50].
تشير هذه الآيات في مطلعها إلى قريش إشارة تحقير، فهؤلاء كفار مكة يقولون ما هي إلا الموتة الأولى التي نموتها في الدنيا، ولا حياة ولا بعث بعدها. وإن كنتم أيها المسلمون صادقين في ادعاء البعث، فأعيدوا إلينا آباءنا إلى الدنيا بعد قوتهم، لنسألهم عما رأوا في آخرتهم. وهذه حجة واهية، لأن البعث ليس الآن، وإنما في يوم القيامة.
فرد الله تعالى عليهم مهددا، ومنذرا، ومتوعدا بالعقاب:
أهم، أي كفار قريش من عدنان خير في القوة والمنعة، أم قوم تبّع الحميري من قحطان، الذين كانوا أقوى جندا وأعز مكانا؟ وكذلك الأمم السابقة كعاد وثمود ونحوهم، أهلكناهم جميعا لكفرهم وإجرامهم، فإهلاك من دونهم أيسر وأقرب. وتبّع المشار إليه في هذه الآية: رجل صالح من التبابعة، ذم الله تعالى قومه، ولم يذمّه ونهى العلماء عن سبّه.
والدليل على قدرة الله تعالى الشاملة والعظمى: خلق السماوات والأرض، فلم يخلق الله السماوات والأرض وما بينهما، عبثا ولعبا، وباطلا ولهوا، وإنما بإبداع لا نظير له. وما خلقهما الله إلا خلقا ملازما للحق ولإظهاره وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم، وضعف وعيهم، فمن أبدع ذلك، أليس قادرا على إمكانه إعادة الخلق؟! إن يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بين الخلائق: هو موعد جمعهم، ووقت حسابهم وجزائهم جميعا، إنه يوم لا ينفع قريب قريبا، ولا ناصر منصورا، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو الإغناء، فلا يفيد المؤمن الكافر، ولا ينتصرون من أحد، لكن من رحمه الله، فإنه ينتصر وينجو، فإن الله هو القوي الغالب القاهر الذي لا يفلت أحد معتد من عذابه.
وسيلقى المشركون منكرو البعث كلّ ألوان العذاب والمهانة، فإن طعامهم هو طعام الآثمين قولا وفعلا: وهو شجرة الزقوم الشديدة المرار، والذي لا يشبع.
والأثيم: مبالغة في الإثم، وهذه الشجرة: هي الشجرة الملعونة التي تنبت في قعر جهنم.
وهذا الطعام يشبه عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس، لحرارته ورداءته، يغلي غليانا شديدا في بطون آكليه، كغلي الماء الشديد الحرارة، ويقال للملائكة خزنة النار: خذوا هذا الأثيم، فجرّوه وسوقوه إلى وسط النار، بعنف وشدة، ثم صبوا على رأسه الماء الشديد الحرارة، الذي هو أشد الماء الساخن، وقولوا له تهكما وتقريعا: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك في الدنيا، وإن هذا العذاب هو الذي كنتم تشكّون فيه، حين كنتم في الدنيا، وهو كما جاء في آية أخرى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 52/ 13].
أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزّبد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد، فنزلت: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ}.
وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أبا جهل، فقال: إن اللّه أمرني أن أقول لك: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} [القيامة: 75/ 34- 35] فنزع يده، وقال: ما تستطيع لي ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله اللّه يوم بدر، وأذلّه وعيّره بكلمته، ونزل فيه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
حال المتقين في الآخرة:
أوضح اللّه تعالى أحوال الكافرين وما يلقونه من أهوال الآخرة، ثم من أجل الموازنة، ذكر اللّه تعالى حال المتقين يوم القيامة، وما يحظون به من أنواع خمسة من النعيم، فلهم جنان الخلد، ويتدثرون بألبسة الحرير، على سرر متقابلين ويتزوجون بالحور العين، ويتفكهون بكل فاكهة آمنين، وحياتهم في الجنة خالدة أبدية، ووقوا عذاب الجحيم، وذلك بفضل اللّه أعظم الفوز، وأمكن معرفة ذلك يقينا بما دل عليه اللسان العربي الفصيح، الذي نزل به القرآن الكريم، ولم يبق إلا إنجاز الوعد. وهذا ما أخبرت به الآيات الآتية:

1 | 2